[ بمناسبة مرور عامين على اندلاع الثورة السورية، توجّهت "جدلية" إلى عدد من الكتاب السوريّين بحزمة أسئلة تنطلق من مقولة فانون حول العنف ودوره في التغيير الثوري. تقارب الأسئلة جدلية العنف والسلم في التغيير السياسي. فتقف عند مفهوم الثورة السلمية وإمكانية تحقيقها على أرض الواقع. كما تتعرض إلى العنف كوسيلة للتحرّر، خصوصاً من نظام حكم استبدادي. والمدى الذي تفرض فيه طبيعة الحكم وسائل مقارعتها ومقاومتها. والسؤال المحوري: ما العمل؟]
- ربما وجب علينا قبل الإجابة على السؤال تحديد معنى العنف، وحدوده. إذا كان العنف هو بذل قوة لإرغام طرف على الإتيان بما لا يريد فعله من تلقاء نفسه، فإنه أمر مشروع، وعنصر جوهري في الصراع السياسي. إذ ليس من طبيعة السلطات، ولا من مصلحتها، أن تتنازل عن مكتسباتها عن طيب خاطر. مما يجعل ممارسة القوة ضدها (العنف) أمرا لا مهرب منه.
لكن، إن كان العنف واحداً في الجوهر فإنه متعدد في الأشكال والأحجام والطبائع. المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات أشكال "ضرورية" من العنف، ولا يمكن تصور صراع سياسي من غير ممارستها. وهي أشكال عنف "مشروع"، لكن حمل السلاح والقتل وتخريب الأملاك الخاصة والعامة أشكال عنف "غير مشروع". وأعتقد أن معيار الشرعية في تقييم العنف يرتبط بمبادئ حقوق الإنسان، فكل عنف لا يتجاوز تلك الحقوق هو مشروع، ونتكلم هنا عن الصراع السياسي فقط.
- الثورة بذاتها وبتعريفها عملية إرغام على تغيير أو على تغيير جذري، فالعنف بالضرورة، جوهر الثورة. لكن، هنا أيضاً، واعتماداً على المعيار المذكور في الرد الأول، يمكن القول إن الثورات السلمية ممكنة في المجتمعات، أو في الدول، التي تُضبط نزاعاتها على أرضية حقوق الإنسان. أما في دول الاستبداد فلا أعتقد أن هذه الثورة ممكنة، لأن العنف هو جوهر السلطة والضامن لوجودها ولا مناص من عنف مضاد لإرغامها على التغيّر أو التغيير.
- ليست غاية العنف في كتاب "فانون" مطابقة لغايته في ما يجري اليوم في سوريا. فانون يتكلم عن حركة تحرر ضد استعمار كولونيالي غريب عن المجتمع، في سورية حركة تحرر من عنف سلطة من صلب المجتمع. الغاية في الحالة الأولى تبرر كل أشكال العنف لأن الصراع بين خارج وداخل، والتحرر لن يولّد صراعا داخل الوطن المتّحد، وإن كان من الممكن أن يولّد خلافات حول أسلوب قيادة البلاد. الغاية في الثانية تبرر عنفاً مشروطاً، لأن الوضع المنشود يفترض مصالحة وطنية توقف العنف الكامن لدى طرفي الصراع. العنف ضد الاستعمار مطلق ويمتلك احتمال التحرر. العنف ضد النظام محدد والتحرر المرجو من ممارسته غايته العدالة والكرامة للجميع.
- كان الإصلاح حلاً مرغوباً، وممكناً، على الأقل على المستوى النظري. لكن بنية النظام "الأمنوقراطي" كانت عاجزة عن رؤية أي إمكانية لحل الأزمة عن طريق الإصلاح. ثمة "معجزة" كان من المشتهى أن تقع، لكن المعجزات لا توجد سوى في الكتب الدينية وحكايات الأطفال، لم ير النظام غير الحل الأمني، ولم تحصل المعجزة.
- على صعيد النظرية والتجريد، ليس من الممكن البتة احتمال انتهاء الاستبداد دون ممارسة العنف، غير أن هذا لا يجوز أن يعني ممارسة العنف من أجل إنهاء النظام فحسب، وإنما كوسيلة لتحقيق ثورة حقيقية، وهذا ما يفترض وجود برنامج سياسي ثوري، يحسن "دوزنة" العنف في مرحلة إسقاط النظام وفي المرحلة التالية له: مرحلة بناء الدولة الجديدة. في هذه المرحلة الثانية والأخطر لا مفر من ممارسة العنف لنزع السلاح وضبط الفئات المسلحة، لمنع الانتقام، لتنفيذ شروط العدالة الانتقالية، لتحقيق سلطة الدولة....إلخ.
- نعم دون شك، بوجود قيادة تنظم العنف وتوجهه. المشكلة الكبرى في سورية هي أن ما كان عليه أن يكون القيادة السياسية للثورة، التي تقود العنف، وتقنونه، وتسيّره، صارت تابعة للعنف المنفلت من عقاله. ضعف هذه القيادة وتشرذمها منع العنف الثوري من تجميع قواه وتنظيمها، وأتاح بالمقابل للنظام الزمان الكافي ليتمادى في حله الأمني قبل أن يتأكد بأنه ليس ثمة أي جدوى منه.